في الآونة الأخيرة، عقد الاتحاد الأوروبي شراكات موسعة مع دول جنوب المتوسط في إطار سياسة الجوار الأوروبية، التي دشَّنت التعاون بين الجانبين منذ إعلان برشلونة عام 1995.
شهدت أوروبا كثيراً من التحديات الجيوستراتيجية في العقد الأخير، وبعد تحديات وباء كورونا وأزمة سلاسل التوريد، وقوافل الهجرة غير النظامية عبر البحر المتوسط، جاءت الحرب في أوكرانيا لتمثل تهديداً لتماسك الاتحاد وسياساته الدفاعية وأمنه الطاقي.
وفي ظل المحاولات الأوروبية لتنويع مصادر الطاقة والحدّ من التهديدات الأمنية المتصاعدة، باتتْ بروكسل توجه أنظارها إلى جنوب المتوسط لتحوّل التهديدات إلى فرص، لا سيّما في مجال الطاقة الجديدة والمتجددة.
من “التهديد” إلى الفرص
تقليدياً، كانت أوروبا تنظر إلى جنوب المتوسط كمصدر للتهديدات الأمنية، مثل الهجرة غير النظامية والاتجار بالبشر والإرهاب والجريمة المنظمة.
وكانت استراتيجية الاتحاد هي جعل خطوط دفاعه خارج أوروبا، طبقاً لأوراق خافيير سولانا، المنسق الأعلى للسياسات الدفاعية والأمنية الأوروبية السابق، التي نُشرت عام 2013.
وهي الاستراتيجية التي طُورت اليوم من خلال “البوصلة الاستراتيجية” للاتاد، التي تهدف إلى تعزيز دور الاتحاد الأوروبي في إدارة الأزمات، وتحسين قدراته الدفاعية، وتمكينه من مقاومة الأزمات وإقامة شراكات مع دول ثالثة.
وفي الآونة الأخيرة، عقد الاتحاد الأوروبي شراكات موسعة مع دول جنوب المتوسط في إطار سياسة الجوار الأوروبية، التي دشَّنت التعاون بين الجانبين منذ إعلان برشلونة عام 1995.
وتهدف آلية الجوار والتنمية والتعاون الدولي الجديدة للاتحاد الأوروبي (NDICI)، إلى النظر في إمكانية تحويل التحديات المشتركة إلى فرص اقتصادية واستثمارية، تحفّز الانتعاش الاجتماعي والاقتصادي في منطقة جنوب المتوسط والقارة الإفريقية.
ويخصّص الاتحاد الأوروبي ما يقارب 7 مليارات يورو في الفترة الممتدة من 2021 حتى 2027، كما يعمل على فتح الباب أمام حشد استثمارات خاصة وعامة إضافية تصل إلى 30 مليار يورو.
وتلك الشراكة الأوروبية مع إفريقيا لها خمس ركائز، هي: التحول الأخضر والوصول إلى الطاقة، والتحول الرقمي، والنمو المستدام وفرص العمل، والسلام والحكم الرشيد، والهجرة والتنقل.
فرصة في شمال إفريقيا
تصبّ هذه الركائز جميعها في المصلحة الاستراتيجية للقارة العجوز؛ فلطالما عملت أوروبا على محاولة تحسينمنطقة شمال إفريقيا، الذي يُمكن أن يُحدث انتعاشاً اقتصادياً يعمل على تقليل الهجرة غير النظامية، وكذلك إدماج مختلف الأطراف السياسية في أنظمة الحكم، ومعه تقلّ حالات عدم الاستقرار السياسي المؤدية إلى الهجرة.
وفي ظل استراتيجية الاتحاد لتنويع مصادر الطاقة، فإنّ منطقة شمال إفريقيا تمثل منطقة واعدة للاستثمار الأوروبي في مجالات الطاقة النظيفة، نظراً لمناخها وقربها من أوروبا في نقاط تماسّ عدّة مثل إسبانيا وإيطاليا، ما يسهّل عمليات الرّبط الطاقي بين جنوب وشمال البحر المتوسط.
وتحدَّثَ الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية جوزيب بوريل عن الأجندة الجديدة لجنوب المتوسط، التي تتمحور حول توحيد الجهود المشتركة بين شمال المتوسط وجنوبه، في إطار شراكة لتمكين سكان الجنوب من بناء منطقة “أكثر ديمقراطية واخضراراً وازدهاراً”.
ويأتي على رأس الأجندة، “خلق النمو الاقتصادي والوظائف والاستثمار في رأس المال البشري والحُكم الرشيد”، في حين يطمح الاتحاد إلى العمل المشترك لمكافحة الهجرة غير النظامية والتهريب.
وفي هذا الإطار، يعقد الاتحاد الأوروبي شراكة مع كلٍّ من مصر وتونس والمغرب، للاستثمار في الطاقة الخضرا، وكذلك للحدّ من الهجرة غير النظامية.
مصر والطاقة الخضراء
عقد الاتحاد الأوروبي في مايو/أيار الماضي، اتفاقية مع مصر لربط الطاقة المستدامة بين الجانبين.
وقال رئيس وفد الاتحاد الأوروبي في مصر السفير كريستيان بيرغر، إنّ “الاتحاد يرغب في استخدام موارده كأكبر مانح في العالم يقدّم أكثر من 40% من تمويل المناخ العام العالمي، من خلال دولنا الأعضاء والمؤسسات المالية”.
وتأتي الاتفاقية في مرحلة تشهد ارتفاع تكلفة تصدير غاز شرق المتوسط إلى أوروبا، سواء بإنشاء مشروعات أنابيب جديدة أو تسييل الغاز، ولهذا يبدو أنّ الاقتصاد الأخضر في مصر حل عملي لتوفير الطاقة الخضراء لأوروبا، يتماشى مع سياساتها البيئية والاتفاقات الدولية وعلى رأسها اتفاقية باريس للمناخ.
ويحتاج الاتحاد الأوروبي إلى ما بين 10 و12 مليون طن سنوياً من الهيدروجين الأخضر، فيما تُعدّ مصر أحد أهم مراكز إنتاج وتصدير الأمونيا الخضراء والهيدروجين الأخضر لأوروبا.
وتتضمن مجالات التعاون بين الجانبين الطاقة وأمن الطاقة والزراعة والأمن الغذائي والبنية التحتية، وسيموّل الاتحاد المشروعات في تلك المجالات حتى عام 2027.
وحرص مسؤولو الاتحاد الأوروبي على لتعاون مع مصر في مكافحة شبكات التهريب والاتجار بالبشر، التي تعمل على تنظيم رحلات هجرة غير نظامية من مصر إلى أوروبا، لا سيّما بعد غرق قارب كان يحمل نحو 750 شخصاً قادمين من مصر إلى السواحل اليونانية.
وتشير الأرقام إلى أنّ أكثر من 3500 مصري عبروا المتوسط في الأشهر الخمسة الأولى من عام 2022، وهو أربعة أضعاف الأعداد التي عَبَرَت في الفترة ذاتها من عام 2021.
في حين ستحصل مصر على 80 مليون يورو من المفوضية الأوروبية للتعاون في مجال الهجرة، إضافةً إلى 100 مليون يورو عاجلة للتعاون في مجال الأمن الغذائي.
شراكة كثيرة
أما تونس، التي تُعدّ أحد أهم معابر الهجرة الإفريقية غير النظامية إلى أوروبا، فقد عقد معها الاتحاد الأوروبي مذكرة تفاهم لاتفاق “شراكة استراتيجية” بشأن التنمية الاقتصادية والطاقة المتجددة والهجرة غير الشرعية.
وتعهدت رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، بتعزيز ورفع مستوى التعاون في إدارة الحدود وعمليات البحث والإنقاذ.
ونص الاتفاق على تخصيص جزء من الأموال لإعادة تأهيل خفر السواحل التونسي، والتعاون مع المنظمات الدولية سواء لـ”حماية المهاجرين” أو لتنظيم رحلات لإعادتهم من توس إلى بلدانهم الأصلية.
وقد حث أعضاء في البرلمان الأوروبي المفوضية على أن تكون الصفقة مشروطة باحترام الديمقراطية وسيادة القانون في البلاد.
كما وُجهت إلى تونس اتهامات بـ”انتهاك حقوق الإنسان” ضدّ المهاجرين الأفارقة، الذين وصفهم الرئيس التونسي بأنّهم “جحافل” ضمن مؤامرة تستهدف تغيير التركيبة السكانية في تونس، وأعقبها احتقان في مدينة صفاقس مع المهاجرين أسفر عن مصرع مواطن تونسي، وفرار مئات المهاجرين من بيوتهم إلى مناطق صحراوية على طول الحدود مع الجزائر وليبيا.
المغرب والطاقات النظيفة
أما المغرب، فقد دشّن خططاً عدّة لتعزيز التحول الأخضر، منها خطة المغرب الأخضر للزراعة الذكية مناخياً، والاستراتيجية الوطنية للطاقة، التي تركز على نشر الطاقات المتجددة، والاستراتيجية الوطنية للتنمية المستدامة 2030، والخطة الوطنية للمناخ 2030.
وتهدف هذه السياسات إلى زيادة حصة الطاقات المتجددة في المزيج الكهربائي إلى أكثر من 52% مع حلول 2030.
واليوم يوجد في المغرب 111 مشروعاً للطاقة المتجددة، باتت تمثل 37% من القدرة الكهربائية للمملكة بإنتاج 1430 ميغاواط من الكهرباء بفضل طاقة الرياح، و750 من الطاقة الشمسية، و170 من الطاقة الكهرومائية.
وبلغت مساهمة الطاقات المتجددة نحو 20% من الحاجيات الكهربائية للمغرب؛ الذي يسعى إلى استقطاب 4% على الأقل من إجمالي السوق الدولية للطاقات المتجددة.
وينظر الاتحاد الأوروبي إلى المغرب بوصفه ركناً أساسياً في خطته لإنتاج الطاقات المتجددة نظراً للقرب الجغرافي، وذلك في إطار “الصفقة الخضراء” للوصول إلى «صفر انبعاثات كربونية» بحلول 2050 طبقاً لاتفاقية باريس للمناخ، بتكلفة قد تصل إلى 55 مليار يورو.
وسواء في هذه البلدان أو دول أخرى، فمن ناحية الجغرافيا السياسية يمثل شمال إفريقيا عمقاً استراتيجياً لأوروبا، كما قد يلبّي الاحتياجات الاستراتيجية للطاقة النظيفة الأوروبية مستقبلاً، وقد يسهم بفضل الشراكات في مقاومة ظاهرة الاحتباس الحراري العالمي.
جميع المقالات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن TRT عربي.